أولا: التكوين
السؤال الأول: بعد وفاة الوالد ذهبت من المدينة إلى القرية. كيف تعايشت مع عالم القرية؟
أصبحت متيقنا أن لوفاة والدي المبكرة (وأنا بعد طفل في التاسعة من عمري)، واضطرار الأسرة للعودة إلى موطن العائلة الواقع جنوب دلتا نهر النيل، العامل الرئيس في تشكيل وعيي ورؤيتي الفنية والإنسانية في الحياة، في ذلك الوقت كان الفلاح المصري يعيش حياة بدائية، كان على أعتاب الحضارة الصناعية، أما عصر الكهرباء فلم يصله بعد، كان يعتمد بصورة كاملة في إنتاج محصوله على قوة عمله الجسدية والجسمانية وقوة الحيوان، أما أدوات الإنتاج فكانت بدائية؛ الفأس والمحراث والطنبور والساقية والزحافة والنورج، كانت المشاركة في الأدوات والبهائم وتبادل قوة العمل جزء أصيل من أسلوب الإنتاج مع جيرانه؛ لا كهرباء، لا ميديا لا شبكات اتصال، لا شبكات مياه ولا صرف صحي، وفي ظل علاقات اقتصادية تعتمد على تبادل سلع عيني، في ذاك الوقت كان الفلاحون يقضون شؤون حياتهم من أكل وشرب وشراء السلع من فوق أسطح دورهم حيث كيزان الذرة وصوامع القمح، ومن منتجات زرائبهم حيث اللبن والجبن والبيض والدجاج والبط والإوز، أما مواقدهم فهي كوانين وأفران بدائية) مصنوعة من الطين اللبن والأجر)، وقودها يعتمد على عيدان حطب الذرة أو القطن، ووسائل النقل حياتهم اليومية هي الحمير والجمال وللأثرياء البغال والخيول وعربات الحنطور، وسيلة الاتصال الوحيدة مع العالم الخارجي هو القطار البخاري، وراديو يعمل ببطارية في حجم أكبر من بطارية السيارة الآن، أما الليل فمضاء بمصابيح وكلوبات الجاز.
ونحن كأسرة انتقلت من المدينة، لم يكن لدينا أي من هذا، فنحن لم نكن نفلح أو نزرع، ولم يكن لدينا زرائب، ووسائل التعليم كانت تنحصر في المدرسة الأولية، ولم يكن هناك تعليم للإناث. وكان التعامل مع انعدام الكهرباء وجحافل الناموس والبراغيث لأسرة قدمت من المدينة مروعة، ما جعل حياة الأسرة صعبة، في المقابل تلقت الأسرة فيض من المحبة من الأهل والأقارب، في وقت كانت القرية تعتبر عائلة كبيرة واحدة، تسودها مجموعة هائلة ورائعة من القيم الأصيلة.
في تلك الظروف تمكن مني حب القراءة بشغف، وكانت حكايات الجدات في الليل عن الأميرات والأطفال المظلومين، وقصص ألف ليلة والسندباد تخلق عالما سحريا، أما الليالي التي كنا نقضيها في حضرة شاعر الربابة فكان أثرا هائلا في الوجدان.
في الثالثة عشر من عمري عدنا إلى القاهرة حيث أقمنا في منزل جدي لأمي بحي شبرا، وأنا أحمل داخلي أسئلة كثيرة عن معني العدالة والحرية، خيارات الأنسان وإمكانية مواجهة قدره، أدمنت التردد على المكتبة العامة في شارع طوسن بشبرا والتي مثلت نافذة مشرقة على الثقافة والأدب العالمي، وبعد رحلة متواترة مع عالم الأدب والمسرح العالميين، وفي ذات العام أصبح لدي يقين بأن حلم حياتي أن أصير روائيا.
السؤال الثاني: روايتان لهما وقع السحر في تكويني
فضلا عن سلاسل الروايات الخاصة بالنشء والمراهقين وأذكر منها أرسين لوبين، شرلوك هولمز، سلسلة كتابي لحلمي مراد، سلسلة روايات عالمية وغيرها الكثير، استطيع القول أن هناك روايتان أثرتا في حياتي تأثيرا حاسما، الأولي كانت رواية “لمن تقرع الأجراس” لأرنست هيمنجواي، منها تعلمت أن بإمكان المرء أن يصير حرا حتي من الموت ذاته، وأن بإمكانه أن يقاتل من أجل حرية الإنسان في إي مكان من العالم، وأخيرا تعلمت أنني إذا أردت أن أساهم في خلاص العالم يجب أن امتهن هذا الفن العظيم” فن الرواية”.
الرواية الثانية كانت رواية “الأم” لمكسيم جوركي، قرأتها وأنا بعد في بداية المرحلة الثانوية، وكان لهذا أثرة على في إعادة تفسير حياتي العائلية، لقد توقفت عن صب جام غضبي وإلقاء اللوم علي والدي الذي توفي مبكرا وتركنا في ظروف حياتية صعبة، وأمي التي فعلت المستحيل من أجل أبنائها كي تؤمن لهم حياة رائعة، ليتسع النظر ويتوجه إلي محاكمة المجتمع العاجز عن توفير العدالة الاجتماعية المناسبة لأبنائه، ومنذ تلك اللحظة تبنيت مسئولية بناء علاقات أسرية قائمة على المحبة والمسؤولية، ولا استطيع القول أنني نجحت بصورة كاملة، ما زلزل يقيني بأشياء كثيرة.
السؤال الثالث: وهل ظهرت آثاره في إبداعك؟
بالطبع فأنا لدي يقين أن الفضل الرئيسي والأساسي في تمكني من كتابة روايات (نهر السماء) و(مراعي القتل) و(شرف الله) يعود أولا وأخيرا إلى تلك الفترة الذهبية من حياتي التي دفعني القدر وبصورة اعتبرها قهرية من الانتقال في عمر مبكر من المدينة إلى القرية، وأعتقد أنني الروائي الوحيد الذي مر بتلك التجربة الفريدة، ولولا تلك الهجرة العكسية لما تمكنت من كتابة تلك النصوص الثلاثة التي أعتبرها من أهم أعمالي، ومن أهم أعمال الرواية العربية.
ثانيا: فن الرواية
البعد الثالث للرواية
السؤال الأول: استخدمت في رواية عتبات الجنة ما يسمي (البراويز) آو الدوائر البيضاوية داخل النص. في أي سياق يأتي هذا التداخل الشكلي؟
تمثل الصفحة داخل الرواية مستوي من بعدين، يُقال في علم الرياضة (س،ص)، وفي هذا الإطار يتم سرد الحكاية الروائية عبر متوالية الأسطر.
من جهة أخري فداخل كل إنسان هناك ما يصرح به، وهناك ما يدور خلده، ثمة أفكار تتوارد في ذات اللحظة داخل الذهن، وأثناء أي حوار بين شخصين غالبا ما يوجد بعدا ثالث غير معلن عنه، حيث يدور في ذهن أحدهما أو كلاهما أفكار تمثل مستوي أخر من التفكير حول ما يقال وما يعلن عنه، هذا ما اقصده بالبعد الثالث أولا في التفكير، والذي أعبر عنه بالدوائر الموازية للنص الروائي، وهو ما يمثل المحور الثالث (ع)، هكذا تكون لصفحة النص الروائي ثلاث أبعاد وهي (س،ص،ع).
هذا النسق الروائي أي البعد الثالث استخدمته لأول مرة بكثافة شديدة فى رواية “شرف الله” وكنت أتخيل أن النقد المصري سوف يتلقاه بوصفه فتح فى الرواية لأنه مبني علي فكرة جديدة كل الجدة لكن جري التجاهل.
السؤال الثاني: ولماذا لم يستقبلك النقاد كما توقعت وانصرفوا عنه؟
اعتقد لأنني انتمى لجيل السبعينات، اعتقد لأن هناك عداء للجدارة والتميز، اعتقد للخلاف السياسي القائم بيني وبين السلطة الثقافية، ففي التسعينات طرحت السلطة قضية التنوير فى مواجهة الإسلام السياسي، كانت تصلح الخطأ الذي وقع فيه السادات، عندما فتح لهم الأبواب كي يستخدمهم في مواجهة اليسار، فانقلبوا عليه واغتالوه.
التنوير الذي هو مجموعة مبادئ الثورة الفرنسية، أساسه حرية الأنسان، والمساواة وفصل الدين عن الدول، لكن سوف تكتشف مع مرور الوقت أن السلطة الثقافية تستخدمه أيضا كي تقود المثقفين وخلفهم الشعب المصري إلى العبودية، إلى الجمهوريات الوراثية، (هذا تبجح وخسة لا حدود لهما (هذا أحد أسباب الخلاف مع السلطة الثقافية.
السؤال الثالث: هل أدخلت مثلث التابوهات الثلاثة؛ الجنس ـ الدين ـ السياسة في أعمالك الروائية؟
أشعر بسعادة لأنني تناولت تلك التابوهات الثلاث بانفتاح شديد، لكن التناول جري بجدية بالغة، وفى سياق وموضوعية تؤسس وعيا معرفيا، فالجنس جزء من الضرورة البيولوجية والوجدانية للإنسان، وهو طريقه إلى البقاء والحفاظ على الجنس البشري أي الخلود في مواجهة الموت، ويلعب الجنس في البناء والتركيبة النفسية للإنسان دورا جوهريا، إنه جزء من الشخصية الإنسانية، وتناوله في النصوص الروائية يعد مواجهة معرفية للسلوك الاجتماعي والنفسي والأخلاقي، لا لإثارة الرغبة قدر محاولة الفهم… والسياسية جزء من خبزنا اليومي، تبدأ من موقف للفرد من فهمه ومدي اعتناقه لمبدأ الحرية ، السياسية أيضا انعكاس لتوفر مبدأ العدالة الاجتماعية على المجتمع، بينما يبدأ التناول الديني من التعرف على اختيارات الأنسان، أمام إشكاليات الكون، ويمتد للتجاوب مع حرية السلوك الإنساني وحرية المرأة وقضايا الديمقراطية وفصل الدين عن الدولة، وخصوصا مع ظهور الإسلام السياسي والاتجاهات المتشددة وقضايا كثيرة تنعكس على حياتنا المعاصرة بصورة هائلة
هذا المثلث بارتياح شديد جدا عبر عنه في جدل مع الحياة اليومية وطبيعة الشخصيات والأحداث، وأن يكون دائما داخل السياق الفني للنص الأدبي.
ثالثا: الاغتراب
(هجرة المصريين في الربع الأخير من القرن العشريين)
(عقب حرب أكتوبر)
السؤال الأول: تغريبة المواطن المصري في بلاد النفط تناولتها في مراعي القتل، وتغريبة الضابط المصري في عتبات الجنة… المواطن كان مهانا بينما الضابط ليس كذلك فهل الاختلاف يرجع لزمن الاغتراب أم لوضع وسلطة المغترب؟ ولماذا لم تتابع مصائر الضباط في عتبات الجنة؟
دعني أولا أعترض على استخدام مفهوم الاغتراب، ففي الحالة الأولي كانت الوحدة العربية من الخليج إلى المحيط، ولا تزال وستبقي مطلبا تفرضه قانون المصالح العامة للشعوب العربية، كما أن الوجود المصري في منابع النيل هو أمر طبيعي يتعلق بالجذور التاريخية والثقافية للمصريين.
من جهة أخري كانت هجرة المصريين عقب حرب أكتوبر 1973 صاحبت زمنا عانى المصريين خلاله من القهر والفقر والأوضاع الاجتماعية السيئة في بلادهم، فكانوا فريسة سهلة لجلافة البدو وخشونتهم في بلاد النفط، رغم أن الظروف الاجتماعية التي دفعت إلي الهجرة نجمت بصورة مباشرة بسبب الحروب التي خاضتها مصر دفاعا عن مصالحها ودفاعا عن القضية الفلسطينية وعن الأشقاء العرب في مواجهة الضغوط العسكرية الأجنبية في سوريا والجزائر والعراق واليمن، بينما كان الوجود العسكري والإداري المصري في أعالي النيل خاليا من الامتهان بسبب التواشج بين السلطة والطابع الحضاري للوجود المصري آنذاك.
وهكذا يمكن القول إن الاختلاف بين امتهان المواطن المصري في بلاد النفط من قبل الأشقاء العرب، في رحلة البحث عن الرزق في بلاد النفط كان أمر وتجربة مريرة بدأت معالمها في وطنه حيث الظروف الاجتماعية السيئة عقب الحرب، والإهمال الإداري والمعاملة السيئة، ذلك على عكس التقدير الذي لاقاه الجيش المصري الذي كان يضم جنود وضباط مصريين وسودانيين عرب وزنوج، وبين وظيفة السلطة العسكرية وما تحمله من القوة، دون التغاضي عن المعني الوجودي والأخلاقي والسلوكي والحضاري للجيش المصري أعالي النيل.
السؤال الثاني: العرس كانت روايتك الأولى عن ليبيا، بعد ربع قرن عدت لنفس الفضاء الروائي في رواية (العلم)، وتناولت أحداثا متزامنة مع أحداث الرواية الأولى، ما الذي أعادك لنفس الفترة والمكان بعد ربع قرن؟
في الحقيقة أن روايتا العرس والعلم هما جزءان لرواية واحدة، كتبتا في نفس الوقت، تعبران عن عالم واحد، وتعالجان أحداث جرت في نفس الزمن، وذلك في ظل بلوغ الثورة الليبية أوج قوتها عامي (1975- 1977 )، ولكن التناول الفني والموضوعي جري من زاويتين مختلفتين؛ رواية العرس عبرت عن صراع الهويات العربية في سوق العمل لمجتمع نفطي يدعي التقدمية، رواية العلم تعبر عن الصراع الناشب في المجتمع الليبي ذاته، والنتائج الملازمة لدخول المجتمعات النفطية العربية لعالم الحداثة، في ظل التزايد المتسارع للثروة التي جاء بها النفط، وأزمة المرأة الليبية وما تعانيه من ظلم وكبت مريع.
أما الفارق الزمني في النشر، فيعود إلى الصعوبات المتعلقة بالنشر، وكسل الحركة النقدية في تناول أعمالي، الذي دفعني لتأخير نشر الرواية الثانية. وهناك أيضا ضعف الاهتمام، عدم الفهم، التواطؤ النقدي.
السؤال الثالث: العرس والعلم اهتمام بليبيا لكن في مراعي القتل رفض لها، نرجو التفسير؟
مطلقا، فلا رفض ولا انحياز لجانب على أخر، أنها روايات تحمل كل منها رؤيتها الخاصة المعبرة عن تجربة شخوص ينتمون لجنسيات عربية مختلفة، أخذهم سوق العمل إلي الاكتواء بجحيم البداوة عندما يمتلكون السلطة والثراء والنفوذ، والشخصيات في الروايات الثلاثة ضمها ذات العالم، في ذات الوقت… في ذات الجغرافيا، في ذات التاريخ. وهي بهذا الشكل تجربة فريدة مثيرة للاهتمام.
السؤال الرابع: “رفعت” في رواية العلم وحديثه عن الحرية… هل كان ينطق بلسانك أم أن أحداث الرواية نفسها فرضت عليه رؤاه؟
هناك شخصيات وأحداث يهتم الروائي بتصديرها للتاريخ وللقارئ، قد تكون معبرة عن أفكاره، شرط أن تكون داخل السياق العام للنص، ولا تخالف الإطار الفني للرواية، وألا تبدو نغمة نشاز عن المعزوفة الأصلية، وشخصية رفعت من هذا النوع، أردت أن أعبر عما تعرضتُ له، وتعرض له أصدقاء، في أحد الأنظمة القومية النفطية، والتي تعودت على شراء المثقف والسياسي المصري وتغدق عليه الأموال بسهولة ويسر، وهو هنا (وبعيدا تعميم) غالبا ما يتخلى عن حريته ويصير تابعا لمن يدفع، وهذا تدمير وامتهان لاستقلال المثقف ينعكس سلبا على كبرياء المثقف وكبرياء الوطن. وأردت هنا القول إن هناك مثقفين مصريين لا يمكن شرائهم.
رابعا: عناوين رواياتي
السؤال الأول: شرف الله تقترب من سيرتك الذاتية وتنهل منها، قيل أن اسمها الأول قبل النشر كان ”رقص الجمال”، لم غيرت العنوان؟
كان اسمها الأول” رقص الجمال”، غيرتها إلى ”شرف الله” كي يشكل الصدمة، تعبر عن الواقع المُزْرًى الذي بلغناه في العقد الأخير من حكم مبارك، وأنا شخصيا أفضل الاسم الأصلي، وأقصد ”رقص الجمال”.
السؤال الثاني: كيف تختار عناوينك عادة
أجتهد بصورة هائلة في البحث عن اسم للرواية، واعتبر العثور على أسم الرواية جزء هام من فعل الكتابة ومحفزا له، في بداية اهتمامي بأن أكون روائيا كان لدي مفكرة كتبت فيها عشرات العناوين لروايات أحلم بكتابتها، الاسم يعد تجسيدا للعمل، ومنذ اللحظة التي استقر فيها على العنوان يسير كل شيء على مهاد من المعرفة وباتجاه ما هو معلوم سلفا. والشغف ببلوغ النهايات.
أسماء رواياتي علامات ورايات في سماء حياتي اليومية يتعين على بلوغها، والمعني الوحيد لبلوغ تلك الرايات المحلقة في السحاب، هو بلوع نهاية النص، وتحقق الاسم والانتقال به من المعني الافتراضي الذي يعيشه في ذهن المؤلف الى الوجود الواقعي الذي يردده جمهور القراء والنقاد والمثقفين، دعني أقول لك أن (أسم الرواية)، هو تلك الراية المحلقة في السماء والدافع الهائل والمحفز الذي استمتع به واستجلب منه البهجة والحلاوة على بلوع النص نهاياته، وفي تلك اللحظة يتحول الاسم من العالم الذهني المجرد الي عالم الخلود الفني والثقافي لدي الجماعة… “نهر السماء، مراعي القتل، عتبات الجنة، شرف الله، منازل الروح، رقص الإبل، عشق، العرس، العلم”، عناوين لنصوص في مرتبة الخلود… وهذا رأي واعتقادي ولا ألزم به أحد.
السؤال الثالث: ما مدى أفادتك من سيرتك الذاتية فيها وفي بقية أعمالك؟
بالنسبة لرواية شرف الله فهي تضم عالم طفولتي ورجولتي معا، في البداية وأنا بعد لم أتخطى السادسة من عمري ونحن نعيش في القاهرة كان أبي يستضيف كل عام درويش يدعي عم عثمان، كان أحد المجاذيب، من دم ولحم، وكان يرتدي الخيش، ويقيم معنا في حضرة والدي قبل رحيله للسموات العلا، وأنا لا انسأه،
فيما بعد عندما انتقلنا إلى قريتي كانت الموالد لحظات تمتلئ بالسعادة والغبطة لدي الفلاحين، السفر على ظهور الجمال وفي القطار البخاري لحضور مولد سيدي أحمد البدوي وإبراهيم الدسوقي مواعيد تنتظرها القرية بشوق واشتياق، فيما بعد عرفت إنها طقوس اجتماعية للبهجة يلجأ لها الفلاحين للترويح عن شقائهم من العمل الدؤوب طيلة العام. وكانت تلك الاحتفالات والرحلات تجري بعد مواسم الحصاد وجمع المحاصيل وجني القطن، وطلب الأرض للراحة قبل بذرها لموسوم جديد.
من جهة أخري كنت أعاني أثناء عملي في مترو الأنفاق معاناة مريرة، تم تجميد ترقياتي المستحقة وعن جدارة، وأشياء أخري سوف أتناولها إذ قدر لي الوقت والزمن، وقد جعلت من رواية شرف الله مدونة مظلمة رفعها البطل إلى السيدة زينب زعيمة الديوان.
وبصفة عامة هناك نمطين من الرواية، النوع الأول الذي يتناول الكاتب فيه تجربته الشخصية، وهو ما يعني أن السيرة الذاتية للكاتب سوف تمثل نسبة غالبة من السرد، ومع ذلك فان احتمالات الصدق والزيف واردة، النوع الثاني الذي يتناول فيه الكاتب العالم ويشتبك معه، بصورة موضوعية، وهناك احتمال كبير لأن تكون تجاربه الشخصية جزء ما من العوالم والأحداث المتناثرة داخل النص.
خامسا: اللغة العربية المعاصرة
السؤال الأول: بعض الكتابات تتسم بالاستعلاء في لغة الكتابة أين أنت من هذا؟
امتلاك الكاتب للغة أمر حيوي وضروري بغض النظر عن كونها فصحي أم عامية، لهجات محلية أو عربية، ذلك أن اللغة هي التي تعطي النص مشروعيته الأدبية.
وتمنطق الكاتب بلغة أشخاصه نوع من التحدي، تتخلق من خلاله دراما النص وبراعته، هناك بعض المبدعين يضعون اللغة منذ البداية نصب أعينهم، ما يجعل النص تابع للغة وقد ينجحون أو يفشلون.
السؤال الثاني: حتى لو استغنيت عن القواعد النحوية في كتاباتك؟
أنا لا اهدم اللغة كنت أريد أن أخرجها من الأسر الذي تفرضه ما تنطق به قريش منذ مئات السنين إلى رحاب الراهن. الي كينونة المكان والزمان، فضلا عن النحو المنطقي. ولدي في تناول مختصر لحقته برواية مراعي القتل طبعة 1993 الصادرة عن دار النهر، وهناك أيضا مبحث تحت عنوان (تحرير اللغة تحرير العقل نشر في مجلة قضايا فكرية، وهو موجود في الموقع.
سادسا: الأيدولوجيا/ السياسية
السؤال الأول: هل أعمالك الروائية يغلب عليها الحس اليساري أو الماركسي؟
نعم لا أنكر هذا… فكما قلت سابقا أنني ابن الفترة الناصرية وعندما هزم عبد الناصر، مالت الغالبية من جيلنا نحو للماركسية.
لكن بعد أحداث طويلة وعندما شرعت في كتابة الرواية تبين لى أن هناك عقيدة أكبر وأعظم وأشمل من كل العقائد، وهو (فن الرواية) التي تتبني المفاهيم الإنسانية، بروح يسارية طبعا… لا تؤثرنى فكرة الأيدلوجيا بقدر ما تؤثرنى فكرة الأنسان وصراعه من أجل البقاء في عالم يندر فيه الشرف وعشق الوطن، كما تؤثرني المساهمة في حل طلاسم الهوية وما يتضمنه من هويات مضمرة، وألغازها العسيرة على الفهم. وكل رواياتي ذات طابع يساري لكن لا أضع المفهوم الأيديولوجي أمامي… أنت تري البشر، حياتهم وتشكلاتهم أحلامهم وهي التي تعبر عن نفسها طالما أنت تحافظ على احترامك للشخصيات وكفاحها من أجل مصائرها.
في هذا الصدد تعد شخصية الشاب (رجب) المؤمن الذي ينتمي للإسلام السياسي التي قدمها الروائي يورهان باموق في روايته (ثلج)، من أجمل شخصيات الرواية. وهذا ما يؤكد أن الرواية فن جميل عابر للأيدولوجيات والدين والطائفية والأعراق والإثنيات والجنس. إنها الفن الإنساني بامتياز.
نحن شعب من أقدم شعوب العالم، وهبنا الحضارة للعالم، ثم ما لبثت أن تغيرت الأوضاع بصورة مأساوية، وتحولت مصر إلى مستعمرة لإمبراطوريات متعاقبة…
أول رواية لى هي ” العرس ” وجهت خلالها نقدا للحركة الشيوعية المصرية والعربية في مقارنة مع نجاح الحركة الصهيونية في أنشاء دولة لإسرائيل على أرض وطننا فلسطين، وقد نجم عن هذا نوع من الجفوة بيني وبين الكثيرين، يظل هذا مقرونا بالاحترام البالغ والمتبادل، ولما قدمه شرفاء اليسار وهم الغالبية العظمي من تضحيات جسيمة.
الرواية لابد أن تكون عابرة للإثنيات وعابرة للطائفية وعابرة للأيدولوجيا عابرة للأعراق عابرة لكل ما يميز بين الإنسان وأخيه الإنسان، والعالم يتغير طوال الوقت.
رواية القرن التاسع عشر هي التي حررت الرأسمالية من قسوتها، ورواية القرن العشرين هي أطلقت في مطلع القرن المناخ العالم لرياح اليسار فى العالم كله، وساهمت بقوة في معركة التحرر الوطني، وفي النصف الأول منه ساهمت رواية أمريكا اللاتينية في أسقاط الأنظمة الديكتاتورية المتحالفة مع كل من الكنيسية الرجعية والولايات المتحدة الأمريكية، هنا للرواية مهام نبيلة، وهي أكبر بكثير من أن تظل مصنفا داخل اطر أيديولوجية أو فكرية محددة.
هناك مدرسة كاملة تسمي الواقعية الاشتراكية، أنتجت روايات أثناء الدولة السوفيتية، أغلبه كان ضعيفا، بسبب التزامه المسبق بالأيدولوجية والتمجيد للدولة الاشتراكية ولقادتها، وهو أدب غير مسموح له بنقد النظام السياسي أو الثقافي، ويشن حربا ضد الكتاب والمثقفين المعارضين ويعاني الكتاب والفنانين في ظلاله عنف المطاردات الأمنية. وهذا يتنافى مع الروح الأصيلة للرواية وهو (الحرية والانتقاد).
السؤال الثاني: هل تؤيد تداخل الأبداع والتوجه السياسي؟
القول بالفصل بين السياسي والثقافي، وبين الفني والاجتماعي هو ادعاء باطل، تروج له كلا من السلطة الثقافية والنقدية أي سلطة بشكل عام، والغرب الاستعماري الإمبريالي، طبعا لا يمكن الفصل بين الشخصي والعام، وبين السياسي والاجتماعي، وكل موقف في الحياة هو موقف سياسي، حتي الجهل بالحياة يعد بصورة ما موقف سياسي، يقول فلاسفة اليونان أن المواطن في دولة أثينا يمارس السياسية كظله.
وفي ذات الوقت أتمني أن السلطة السياسية أي سلطة لأي أيديولوجية تتناول الفن والثقافة والإبداع بمعزل عن موقف الكاتب السياسي، وان تبقي محايدة تجاه الاتجاهات والتيارات الثقافية والإبداعية ذات الأفكار والمرجعيات المختلفة، لأن هذا يصب في صميم مصلحة المجتمع، (راجع أهم البنود الدستورية التي تحصن حرية الفكر والاعتقاد والتعبير)، وإنه من السيء تسيد أشكال معينة من الثقافة علي حساب أخري، فهو خسارة لملكات الأبداع وقهر لها، وهو خسارة للمجتمع المصري ككل.
ينبغي أن يترسخ لدينا ولدي المجتمع ولدي كل سلطة أن الفنان والمبدع الجاد الذي يتسم بالجدارة بغض النظر عن ميوله السياسية أو الثقافية هو بصورة ما ضمير الأمة، ينبغي أن يلقي الاحترام والتقدير بدلا من النبذ والإِقْصاء أو العَزْل والملاحقة…
سابعا: الهوية
مشروع الروائي فتحي إمبابي.
السؤال الأول: قلت إن مشوارك مع الرواية كان رحلة في عالم المعرفة، تمحورت وتموضعت حول طبيعة وسلوك الإنسان بصورة عامة، والإنسان المصري والعربي بصورة خاصة. ما الصورة الذهنية التي خرجت بها من هذه الرحلة؟
المصريون شعب عريق وعظيم تمكن من البقاء عبر أهوال التاريخ، محتفظا بأصوله الثقافية الحضارية والإنسانية، كما أن لديه مخزون حضاري كامن في اللاوعي الجمعي، يُمَكنهُ من مواجهة وتخطي اللحظات الحرجة في مسار التاريخ، وقد لعب التاريخ ضد الشعب المصري، فظل يئن لقرون تحت سيطرة الإمبراطوريات الغازية.
من جهة أخري بدأت الجماعة المصرية تستعيد وعيها بالذات الجمعية مع قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر، لقد شقت الكفن التاريخي للشعب المصري، وفي نفس الوقت تعد اللائحة السعيدية التي أعلنت عام 1858 هي التي نفثت الحياة في عروق الجماعة المصرية.
الآن في نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، يمكن القول إن الجماعة المصرية تواجه صراعات عنيفة على مستوي الهويات المضمرة؛ المصرية القديمة (الموجودة بفعل الجغرافيا والتاريخ)، القبطية، العربية، الإسلامية، الغربية العلمانية، وشرط إمكانية الخلاص والتقدم إلى الأمام هو المصالحة الوطنية العامة بين تلك الهويات المضمرة، المصالحة مع الذات، والتقدم نحو دولة المواطنة المدنية العلمانية المعاصرة.
السؤال الثاني: روايات تاريخية، أم بحث في الهوية
في روايتيك: نهر السماء، وعتبات الجنة، لماذا لجأت للشكل التاريخي؟
أعمالي تبدو تاريخية لكنها في جوهرها ليست كذلك… لقد أتاحت لي تلك الهجرة الاضطرارية المعاكسة من المدينة إلى الريف، للتعرف على حياة الفلاحين في لحظة خاطفة من زمن كان في حد ذاته تعبيرا أمينا عن البيئة الثقافية والاجتماعية، والاقتصادية ووسائل الإنتاج السائدة، التي عاشها الفلاح المصري خلال مئات السنين السابقة، قبل دخوله عالم الحداثة والمعاصرة.
لقد أتاح لي الاندماج في حياة الفلاحين المادية والقيمية والثقافية من التفاعل بصورة عضوية مع الفلاحين المصريين الذين أدركت أنني أنتمي لهم شكلا وقالبا، كان هذا بمثابة قرار حددت فيه بصورة مبكرة انحيازاتي الثقافية، على الصعيد المعرفي والوجداني للجماعة المصرية، ما كان له بالغ الأثر في تشكيل وعيي ورؤيتي الإنسانية للحياة، وعندما حل بالوطن الدمار الذي أوقعته هزيمة يونيو 1967 ، صعد من العدم سؤال الهوية الذي لم يكن مطروحا فيما قبل، إذ لم يكن محل شك في الفترة السابقة على الهزيمة، ومنذ تلك اللحظة صار الشغل الشاغل لدي في البحث والمعرفة على كلا من صعيد الرواية والفكر، ومن المعروف أن ثقافة الفلاحون المصريين ورؤاهم للحياة والكون، تعد البنية التحتية الثقافية للطبقات الاجتماعية المختلفة في الريف والمدينة.
تتعلق غالبية أعمالي الروائية بمحاولة فهم مغاليق الشخصية المصرية، وحل طلاسمها، والتعرف على هوياتها المضمرة، والصراعات التي أودت إلى ما هي عليه الآن. وهو في مجمله يتعلق بقضايا الهوية، من هذا المنظور سيتمحور عملي على الانكباب والتنقيب في أركولوجيا الثقافة المصرية، والتي تعد جماعة الفلاحون المصريون العمود الفقري لها. نعم سيكون للتاريخ والجغرافيا والعوامل البيئية حضورا بارزا، فهويات الجماعات البشرية وبنياتها الثقافية أبن شرعي للجغرافيا، وهي تنمو في حضن التاريخ، وفي جدل معه، ولكن التاريخ (بشكل صارم) لم يكون هدفا في حد ذاته، وإنما إطار زمنيا للأحداث المفصلية التي تشكل الأمم والجماعات البشرية.
البحث في الهوية
في رواية نهر السماء وأثناء كتابتها التي استمرت خمس سنوات بدأت عام (1980) وانتهت عام (1986) اكتشفت شيء مفزع، وهو أن مصر خضعت لحكم العبيد ستمائة عام متواصلة وهم «المماليك»، والفرق بين المماليك ومحمد على أن الثاني رجل حر، لم يكن عبدا، حضر إلى مصر واستقر واستوطن هو وأبنائه البلاد،.. المماليك على امتداد ست قرون هم جماعات من العبيد المجلوبين، عجزوا عن الاندماج بين أبناء البلاد الأصلين وتكوين ممالك وراثية، كأسرة محمد على، تمكنهم من وتطوير البلاد، ولهذا حكمت مصر طوال تلك المدة روح العبودية ومنطق السلب والنهب..
هنا اكتشف أن انحدار مصر عبر عشرات القرون تم بسبب منع ملكية الفلاحين المصريين للأراضي كي يظلوا طوال الوقت أجراء… الأمر الثاني منع انخراط أبنائهم في الجيوش التابعة للإمبراطوريات التي سيطرت على مصر؛ روما، بيزنطة، دمشق أو بغداد، أو تركيا.
خلال بحثي عبر التاريخ المتوارث لمعرفة متي بدأت الأزمة وكيف، يعد كتاب “شرائع البحر الأبيض المتوسط القديم” والذي نشر عام 2018، الرؤية الكلية التي اكتشفتها وتعلمتها خلال كتاباتي في الأدب والسياسة.
في كتاب “شرائع البحر الأبيض المتوسط القديم” يتم تناول الأسباب التي أدخلت مصر كهف الظلام… وكنت قد ألفت كتاب بعنوان “جوهر الدساتير” يتحدث عن معني الدستور ومكوناته الرئيسية، وهذ الكتاب الجديد هو استكمال لهذه السلسلة.
السؤال الثالث: كيف ساهمت رواية عتبات الجنة فى إبراز الدور الحضاري للعسكرية المصرية فى حملة منتصف القرن الثامن عشر في أعالي النيل؟
هذا أمر شديد الأهمية لأنه يعبر عن طبيعة الشخصية المصرية عبر التاريخ، والأمر بسيط جدا، فعندما نقارن بين الحملات التي شنتها الإمبراطورية البريطانية في أمريكا الشمالية، والإمبراطوريتين البرتغالية والإسبانية في أمريكا الجنوبية، ستصاب بالهلع، في الشمال جري إبادة الهنود الحمر، وفي الجنوب جري استعبادهم وقضي أكثر من سبعين مليون هندي حتفه، وتم تدمير عدد من الحضارات مثل حضارة المايا والأزتيك باسم المسيحية.
الجيش المصري كان يحمل عتاده وسلاحه من القاهرة، وحملت السفن أيضا مؤونته من الطعام والكساء أيضا من القاهرة، فهو لم يعتمد على نهب القبائل ومشاركتها في مصادر عيشها وحياتها، كما لم يفرض ضرائب أو جزية، واختلط جنوده وضباطه بالأهالي وتزوجوا منهم، وفتح المدارس والمستشفيات وعلمهم القراءة والكتابة دون إجبارهم على دخول الإسلام، وعاد بأبنائهم من نساء الأفارقة إلى الوطن، كما انه شن حربا هائلة ضد تجارة الرقيق، واشتبك في صراع (يعيد نفسه الآن) مع الحركة المهدية التي تمثل الأصولية الدينية. وهو ما تناولته في روايتي “رقص الإبل” و “عشق” وكلاهما تجت الطبع الآن.
اثنان من أهم القادة العسكريين في الجيش المصري في المديرية الاستوائية هما؛ قائمقام بخيت بك بتراكي، وهو من أبناء جنوب السودان زنجي مسقط رأسه تاجالا Tagala، وشارك فى حرب المكسيك، وقائمقام النور بك محمد أغا وهو من السودان العربي ولد في سنار، ونحن لم نشهد هندي قائدا في فرقة لخيالة الولايات المتحدة. وهنا يكمن الفارق.
منذ حوالي 2000 عام منع الرومان التحاق المصريين بالجيش، فأصبحت مصر منذ ذاك الحين أمه عارية ليس لديها ما يحميها ضد الغزاة، وكي تكون مصر دولة قوية هناك مجموعة من الأسس، أهمها وجود جيش وطني كضرورة لوجود الدولة والدفاع عنها ضد الأخطار الخارجية.
ومن هنا جاءت رواية “عتبات الجنة” تعبر عن ميلاد جيش مصري فى العصر الحديث جنوده وضباطه من أولاد الفلاحين.
وهذا يرجع إلى الوالى سعيد باشا الذي عشق مصريته وافتخر بها، وهو من أتخذ قرارا (تاريخيا) أدخل المجتمع المصري العصر الحديث، من خلال اللائحة السعيدية 1858 التي أعادت حق ملكية الأراضي للفلاحين المصريين وبالتالي تكونت الطبقات الاجتماعية المصرية.
والقرار الثاني إعطاء الحق لأبناء العمد والمشايخ في الترقية إلى رتب الضباط في الجيش، بعد عشرين عاما اندلعت الثورة العرابية الوطنية من أجل تشكيل مؤسسات الدولة الحديثة، أي الدستور والبرلمان، وهو ما تولت الإمبراطورية البريطانية كبحه وارتكاسه إلى الوراء.
في 1882 تدخلت إنجلترا عسكريا لتمنع تشكيل البرلمان وتمزق الدستور الذي كتبه المصريون، وأصبحت مصر تحت الاحتلال البريطاني، وعندما احتاجت بريطانيا وهي تستعد للحرب العالمية الثانية ترتيبات لوجيستية فتحت الكلية الحربية وأدخلت أبناء الفلاحين للمرة ثانية، وبعدها بـعشرين عاما اندلعت ثورة 1952 من أجل الاستقلال.
لهذا لا يجب أن يتوه من وعينا أن الجيش المصري ولد من رحم الوطنية المصرية، ولا غني عنه للحفاظ على الاستقلال، وخاصة فى وجود دولة توسيعية مثل إسرائيل، وفي ظل هذا الواقع لا يجب تشويه الجيش، وعلى الجانب الأخر لا ينبغي وضعه في مرتبة القداسة، فكلاهما شديد الخطورة. وخاصة أن مصر في حالة حرب متواصلة.
السؤال الرابع: المصري البسيط جندي أو فلاح أو موظف محور أعمالك الروائية يقدم كل شيء فى الحروب وفى الحياة المدنية وربما لا يحصل على شيء. دائما تخذله السلطة كما جسدته شخصية ابن عبد الجليل ورفاقه في رواية “مراعى القتل” وكذلك الاثنا عشر ضابط والجنود المصريين في عتبات الجنة.. هل يمكن أن توضح لنا أكثر؟
في سبعينات القرن الماضي عاصرت هجرة المصريين إلى ليبيا نتيجة الانهيار الاجتماعي بعد حرب 73، كانت الرحلة شاقة ودامية، وكان استقبال الليبيون للمصريين يتسم بفظاظة واستعلاء البداوة، لكن الحقيقة الساطعة أن هؤلاء الذين عوملوا تلك المعاملة السيئة في بلاد النفط، سبق وأن ذاقوا الذل في وطنهم الأم، نتيجة لسياسة الانفتاح التي لم تتم بشفافية وأطلقت مارد الفساد من عقاله، فدفع الفقراء الثمن، هؤلاء الفقراء هم من خاضوا الحرب لتوهم.
أما بخصوص ما حدث للاثني عشر ضابطا في عتبات الجنة، فالتاريخ يحدثنا أن نوبار باشا رئيس الوزراء هو من أصدر (بناء على تعليمات الإمبراطورية البريطانية وبموافقة الخديوي الخائن محمد توفيق) أوامره لهم بالتخلي عن المديرية الاستوائية، إما بالعودة إلى مصر، أو الانصراف على الطريقة التي تحلو لهم، وأن الحكومة المصرية لم تعد مسؤولة عنهم، وهو ما أثار الحيرة والغضب لدي الفرقتين اللتين كانتا موجدتين في المديرية الاستوائية، ما أدي إلى انهيار الجيش المصري وخسارة جنوب السودان، وهذا بالضبط ما كرره عبد الحكيم عامر بعد ثمانين عاما في 1967 بإصدار أمر بالانسحاب إلى الجيش من سيناء دونما خطة مدروسة، مما خلق فوضي عارمة، جعلت شكل وكيفية الهزيمة مروعة، ما أدي إلى خسارة سيناء، لولا إرادة الشعب والجيش المصري لاستعادتها.
عقيدة الروائي
عقيدة الروائي الرئيسية هي تناول الواقع بكل اعتباراته، وتحليل نسيج المجتمع، وتفكيك الخطاب السائد، المخلص والعميق منه والمزور، وضعه بصورة متخيلة من خلال بلاغة وجماليات اللغة.
لكن الشعب المصري لا يقدر ذاته… وهي حالة أتمني أن تنتهي.
من أعظم الأحداث التي عاصرتها شخصيا الحركة الطلابية ومظاهراتها في السبعينيات من القرن الماضي، والتي كان هدفها الضغط علي الحكومة كي تدخل الحرب، لكن اعتقد أن ثورتي 25 يناير و30 يونيو يمثلان الذروة في التاريخ المصري الحديث.
لسببين الأول: ثورة 25 يناير هي “الجنة” التي كنا نحلم بها… حيث أظهرت الثمانية عشر يوما التي أمضيناها في ميدان التحرير الجماعة المصرية بمستوى عالي جدا من التقدم والتحضر واحترام الذات وكرامة الأنسان، بصورة يحلم بها كل مصلح أو ثوري يتبني عقيدة إنسانية، وكل إنسان في العالم.
والثاني: كانت الحرية دائما ما تقتصر في التاريخ والثقافة المصرية على مفهوم الاستقلال، في 25 يناير ولأول مرة في التاريخ المصري كان مفهوم الحرية الإنسانية وكرامة الأنسان هي جوهر الثورة، هذا أوجد ميلاد جديدا للشخصية المصرية، كذات، كفرد، كمواطن.. طبعا حدثت أشياء كثيرة منها أننا لم نكن منتبهين للتدخل الغربي ودعمه للإسلام السياسي، لكن من المؤكد أن هذه الثورة نابعة من هذا الشعب.
السؤال الخامس: وماذا عن ثورة 30 يونيو؟
ثورة 30 يونيو تعبر عن عراقة وتحضر وإنسانية الشعب المصري في علاقته بالدين، هو شعب متدين، هو شعب علماني، هو شعب متحضر لا يقبل بمفهوم الإسلام السياسي المتعلق بالسيطرة على حرية السلوك الفردي خارج القيم الإنسانية وقيم التسامح… المصريون استطاعوا في خلال سنة فقط أن يحددوا طبيعة نظرتهم إلى الدين، وبالتالي هم من أسقطوا تيار الإسلام السياسي وممثليه سواء من الأخوان المسلمون أو السلفيين.
الجيش بوصفه مؤسسة تنتمي للدولة الحديثة، كان في صراع وجود مع الإخوان المسلمون، فاحتمي بالوعي الشعبي العميق، والذي اختار عند الامتحان الدولة الحديثة، ولو كان الشعب المصري يميل إلى جانب الدولة الدينية لتعرض الجيش الوطني المصري لمخاطر جمة، وخاصة أن شواهد تدمير المؤسسة العسكرية منتشر في الدول المحيطة، في العراق وليبيا وسوريا واليمن.
وينعكس هذا على مدي الثقة التي تؤمن بها القوي المجتمعة بالشعب، هذا الشعب يفرز طول الوقت ما هو أفضل. لكن هناك الكثير من القوى تمنع وتكبح إعطاء القرار له، ولهذا نحن في أزمة
السؤال السادس: ذكرت أن ثورة “٣٠ يونيو” جسدت علاقة الشعب المصري بالدين وعدم قبوله بمفهوم الإسلام السياس للسلوك. ألا تتفق معي أن المفهوم الوهابي للدين أثر على الشخصية المصرية كما أوضحت هذا في رواية شرف الله؟
يوجد مصطلح طالما استخدم في الفلسفة وعلم الاجتماع يتعلق بالثابت والمتغير. يمكن أن تكون هناك متغيرات للشعب المصري نتيجة لأسباب معينة لكنها لا تصبح أطلاقا مكونا ثابتا.
وانتشار المفهوم الوهابي لم يأتي فقط نتيجة الظروف الاجتماعية وسفر المصريين للخليج وللنفط، بل كان أيضا نابعا من استراتيجية غربية إسرائيلية تطمح لتولي الإسلام المتشدد عملية تفتيت المنطقة، وزرع الفتن والصراعات الطائفية، والإسلام السياسي يمكن أن يسود لفترة ما. لكن يجب إعطاء الناس الحق كي تختبر بنفسها، وأضرب مثلا انتخابات ٢٠٠٥ عندما أعطي فرصة للناس تنتخب وحصل اندفاع شديد جدا نحو هذا التيار الذي حصد 88 مقعد بالبرلمان. وبعد عام من تولي الأخوان الحكم قام الشعب باستبعادهم في ثورة 30 يونيو، فالشعب قادر علي الفرز. وانا في تقديري لو أن عبد الناصر أقام نظام ديمقراطي عقب 1956 ما كنا عانينا من هزيمة 1967، فالديكتاتورية دائما نتائجها كارثية، حتي ولو كانت بعضها حسن النوايا.
السؤال السابع: قدمت في “عتبات الجنة” الصيدلي اليهودي فيتا حسان ومحمد أمين باشا الألماني الأصل وكازاتي» .. هذه الشخصيات كانت ضمن البعثة المصرية الحاكمة لأعالي النيل. هل كانت طابور خامس في خاصرة الدولة المصرية وهل لها ظل حاليا في مصر؟
أسرة محمد علي ليست مصرية، ثم أصبحت كذلك بفعل الجاذبية القاهرة للطبيعة وادي النيل.. والبيئة العامة للمنطقة وللعالم في ذاك الوقت كانت تستند على الاحتياج لخبراء يساهمون في عمليات الانتقال من الدولة الشرقية المتخلفة الواقعة تحت الحكم المملوكي والعثماني، إلى الدولة الحديثة، ومن المهم الإشارة إلى أن من استعانت بهم أسرة محمد على كانوا قادمين من شظايا الثورة الفرنسية والحرب الأهلية الأمريكية. أي شخصيات على الأغلب تنويرية، وهناك اتباع سان سيمون.
ومع التطور الاجتماعي تتجذر فكرة الهوية المصرية، ويبدأ قطاع من الأجانب في لعب دور معادى، يتصلون بدولهم، وهذا ما حدث.
مثلا الدين الإسلامي كان ينتشر فى أفريقيا عبر التجار العرب وأئِمَّةٌ الأزهر الشريف بصورة جعلت جنوب الصحراء الكبرى الأفريقية تدين بالإسلام، ما لفت نظر الأجانب لهذا الدور المصري في أفريقيا، فانطلقت الحملات التبشيرية واستطاع الأجانب أن يجعلوا من جنوب السودان خلال التبشير غير مسلم… هنا التاريخ يتحرك بوسائل كثيرة، والقضية لا تتعلق بديانات الشعوب، ولكن باستغلال الغرب تحديدا للدين في الصراعات الإقليمية وتمزيق أوطان الشعوب الفقيرة.
حسان في رواية “عتبات الجنة” شخصية إنسانية مصرية حقيقية، وبسيطة جدا، متفوق في عمله، مهتم جدا بأدائه، وقد فضلت أن أقدمه نموذج لإنسان مصري يهودي مميز، وقد كان كذلك بالفعل (طبقا للمعلومات التاريخية)، ولم أشأ أن تكون البداية بإلقاء اللوم والاتهامات المسبقة…. أحلامه أنا الذي أضفتها لشخصيته، فضلا عن أن مفهوم الوطن القومي لليهود يستند إلى ما جاء في سفر الخروج. كان ما يهمني الإشارة إلى أن فكرة بناء مستوطنات في فلسطين بدأت منذ عام 1863، بينما نحن في غيبوبة، لقد قدمته في الرواية بصورة إنسانية لأن المهم هو إلى أين يذهب السياق التاريخي بالمجتمعات والدول؟ عندما تكون مجتمعات قوية متماسكة حرة ديمقراطية، سوف يعشق حسان وسلالته من اليهود المصريين مصر الإنسانية القوية المتحررة، ولن يفارقوها، دعنا لا نتجاهل الدور الذي لعبته الأنظمة القومية والتطرف الديني والقومي في المساهمة في تسهيل هجرة اليهود المصريين والعرب إلى الدولة الصهيونية الاستيطانية، نحن لعبنا بغباء نفس الدور الذي لعبه كل سلوك أو اضطهاد قومي أو ديني متطرف ساهم في دفع يهود العالم ويهود المنطقة إلى السفر إلى فلسطين…
من جهة أخري فقد لعبت شخصية محمد أمين باشا الألماني مفوض جنرال جوردن الحاكم العام للسودان، والممثل للخديوي إسماعيل، والكابتن “كازاتي” الإيطالي دورا رئيسا فى مسألة انحسار الوجود المصري في أعالي النيل وإحلال قوى استعمارية اجنبيه محله، سواء كانت بلجيكا أو ألمانيا أو إنجلترا أو فرنسا وهذا ما حدث بالفعل.
ونموذج أمين باشا وكازاتي موجود حاليا في مصر… حضرت ندوة لرجال أعمال صناعة النسيج في نقابة المهندسين، رأيتهم يبكون مما فعله بهم رئيس الوزراء الدكتور عاطف عبيد عن طريق اعتماده علي شخص قضي تقريبا علي هذه الصناعة… ونفذ سياسة ضد المصالح الوطنية في صناعة النسيج… محمد أمين باشا موجود بيننا وفي أكثر من مكان.؟
السؤال الثامن: قضية تحديد ” الهوية” لها صدى فى معظم إنتاجك الأدبي لماذا؟
أنا أبن فترة كانت الآمال والأحلام فيها كبيرة، وكنا على يقين زائف بأنن لا توجد قوة في الأرض تمنعنا عن بلوغ ذري أحلامنا، هذا ما ظنناه. لكن هزيمة ٦٧ وهزيمة الناصرية طرحت السؤال لماذا؟ ومن ثم أصبحت فكرة “الهوية” الهاجس الرئيسي لدي. نهر السماء وشرف لله ومراعى القتل وعتبات الجنة ومن بعدهم رقص الإبل وعشق ومنازل الروح نصوص في ذات السياق المعرفي… من نحن؟ وما هي هويتنا؟
“الهوية”، أن نفكك طبيعة وتركيبة الشخصية المصرية كي نكتشف مكنوناتها…ما لها وما عليها، وما ينبغي التمسك به، وما ينبغي تغيره أو تطويره.. أعمالي ونصوصي الروائية تتعلق بطبيعة بالإنسان المصري وإشكالياته.
السؤال التاسع: نهر السماء تتناول السنوات الأخيرة في فترة حكم المماليك. فيم اختلفت روايتكم عن روايات الآخرين؟
نحن أمام متوالية قام فيها كتاب بالتعامل مع تلك الفترة من الماضي واستخدامه لصالح صور متعددة، سعد مكاوي نطرا لما عاناه من الطابع الاستبدادي للحكم الناصري، ونظرا للرقابة المشددة في ذاك الوقت، توجه للتاريخ للقيام بعملية أسقاط لأحداث راهنة على واقع مماثل في العصر المملوكي طبقا لرؤيته. انه نوع من الهروب سواء من الرقابة آو الرقيب، أو رجل الأمن.
جمال الغيطاني اختار رجل الأمن في العصر الناصري كي يكون بطله في روايته الزيني بركات. ولم يكن يمكن له أن يتناول ذلك بصورة مباشرة.
نهر السماء موضوع أخر، رؤية أخري، واستكشاف مباشر لحفرية ثقافية حقيقة تتناول الجمود الثقافي والسياسي والاجتماعي لدي الجماعات البشرية، فهي أعمق من أن تتعلق بأسقاط الحاضر على الماضي، بل هي أعادة اكتشاف للماضي نفسه، وهناك أمران تجليا من خلال رواية نهر السماء؛ الأول يتعلق بالصدمة التي كشفت عنها الرواية حين تبين لي واتضح أن الدولة المملوكية كانت تمثل لست قرون متواصلة ظاهرة ممتنعة عن الوجود، وهو ما عبرت عنه بما جاء في المنطق عن (الثالث المرفوع)، والتي تتمثل في حكم العبيد المجلوبين للأحرار الممثلين في الفلاحين … وهذه حقيقة مفزعة كائنة أمام العين، لكنها في الوقت ذاته مخفية بمهارة وحزق تحت اللغة المزورة للتاريخ الرسمي المكتوب. أنها استخدام للزيف الكامن في اللغة، والتي تبين أنها الطريقة الماهرة لتزيف الوعي وتعطيل العقل الجماعي للأمة.
الثاني: الدعم الذي كانت تقدمه المؤسسة الدينية للسلطة، حتى ولو كانت جماعة منتجة للعبودية. أنه الاختيار بين أن تكون المؤسسة قاطرة للحرية والتقدم، فتكون قادرة على مواجهة ظاهرة غير طبيعية، أو أن تشارك في دعمها وتبرير عسفها وظلمها للفقراء والمعدمين مقابل قدرا يسيرا من المنافع الذاتية لرجل الدين.
السؤال العاشر: هل كانت الرواية إدانة للماليك أم للمصريين الذين رضوا بأن يحكمهم مماليك؟
اعتقد أن أحد الملامح التي تتسم بها كتاباتي ليس إطلاق الأحكام، وإنما البحث في الدوافع الإنسانية ضمن قوانين الضرورة القاهرة لكل من الشخصيات والجماعات. وهو ما يستلزم صفاء الكاتب تجاه شخصياته، ومن أبرز الدلائل على ذلك تناول التاريخ الغامض لأحدي شخصيات الرواية (إليا بتروفيتش، أو حسين بك الأشقر)، وهو تعبير عن ظاهرة المماليك. (العبيد)، الذين تبوؤا موقع السلطة في تلك الفترة التاريخية، كما جاء في النص وفي هذا السياق يغامر الكاتب من خلال شغفة بالبحث عن الحقيقة بالارتحال إلى تخوم الإمبراطورية العثمانية، في مغامرة يستكشف فيها التاريخ المحتمل للشخصية، ونموها داخل الصراعات العرقية والدينية ضمن الحروب الجارية على حدود الإمبراطورية، وحيث الحروب المنتج الأول للعبيد والرقيق.
والكاتب يستخدم القوة الملهمة لفن الرواية لاكتشاف أحدي الشخصيات التي مثلت إحدى الظواهر التاريخية المغلقة على التفسير والفهم، متبينا حجم التدمير والدمار الناجم كنتيجة مباشرة لكل ما هو معادي لقوانين وقواعد التطور والنتائج المترتبة على ذلك، وهي المرة الأولي، التي تتناول المغامرة الإبداعية تلك الظاهرة المرعبة، مستخدمة مدي امتلاك الكاتب للمخيلة الإبداعية، كيفية تشكيل قيم العنف والاستبداد، والتعرف على أسباب العنف الكامن في شخصية المملوك، وخاصة عندما تمتزج حياة العبودية بسيف السلطة.
تاسعا: الحركة الطلابية وجيل السبعينيات
السؤال الأول: “السبعينيون” مجموعتك القصصية الأولي عن جيل تنتمي إليه، ووصفته بأنه: “جيل غدرت به الأيديولوجيا وسخر منه الزمان”، لماذا تناولت الجيل قصصيا بعد دراستك ”الروافد الاجتماعية لجيل السبعينات”، وليتك تحدثنا عن الغدر والسخرية
الكتابة عن جيل السبعينيات كانت دائما ولا زالت هاجسا شخصي، ورغبة متوطنة في الروح والقلب للكتابة عن هذه التجربة وهذا الجيل العظيمين، وقد كانت مطلب كثير من الأصدقاء، وأحيانا توجسا لدي البعض خوفا من تصفية الحسابات، ورغم ذلك من أصعب القضايا الأخلاقية أن تكتب عن حياة رفاقك وأصدقائك الشخصية، أمر صعب للغاية، ويقع على الشفرة الحادة بين الموضوعي واللا أخلاقي، وخاصة عندما ينبغي عليك أن تهرب من الوقوع في فخ إصدار الأحكام الأخلاقية.
أما عن غدر الأيديولوجيا فهذا جلي وواضح؛ فالسبعينين جَاءُوا إبان لحظة تاريخية مربكة (عقب هزيمة يونيو 1967) أغلبهم خرج من العباءة الناصرية متمردا عليها، وتبني الأيدولوجية الماركسية، وأقلهم كان من أبناء الحركة الشيوعية القديمة، وبعضهم ظل ينتمي للإيدلوجية الناصرية، وفي الوقت الذي كانت فيه المنظومة الاشتراكية تشيخ على المستوي العالمي، وتتفكك، وقد جاء انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي بعد عقدين من الحركة ليؤكد ما لم يكن متوقعا إبان الحركة، ورغم ذلك سيبقي للفلسفة الماركسية أثرها الكبير على العلوم الإنسانية والنظم السياسية المختلفة،
كان هذا الجيل العظيم المهموم بقضايا الحرية والعدالة والديمقراطية، يحفزه يقينا مذهلا بأن مهمة تحرير الأجزاء المغتصبة من الوطن بعد الهزيمة يقع على كاهله، وفي ذلك الأتون كان يحمل على كاهله أيديولوجيا تتراجع على المستوي التاريخي. هكذا كان مأزق الجيل أنه جاء متأخرا إلى محطة تاريخية غادرها قطار التاريخ منذ زمن يسير.
أما السخرية فقد كانت ناجمة عن أحكام سيطرة كل خصوم هذا الجيل بما يحملونه من قيمهم، والذين حاربهم جيل السبعينات، على مقاليد الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفيما بعد الثقافية، فضلا عن إحلال سلام منقوص مع العدو الإسرائيلي بعد حرب أكتوبر، الحرب التي قاتلوا من أجل خوضها، ومن أجل هزيمة الصهيونية، من أجل كبح جماح وحشية الإمبريالية العالمية…
السؤال الثاني: فتحي إمبابي ينتمي لجيل السبعينات الروائي، هل هذا الجيل ظلم لحساب جيل السبعينات الشعري؟
جيل السبعينات الروائي تم قصفه لأنه ينتمي إلى الجيل الذي تجرأ على مواجهة السلطة ممثلة في نظام السادات… والصراع الحقيقي كان مع غالبية من جيل الستينات ممن التحقوا بالنظام، وأصبح لهم مواقع في درجات السلطة الثقافية والسياسية، وحصدوا كل الامتيازات والجوائز. ورغم ذلك وكي أكون أكثر وضوحا؛ كانت أشعار أمل دنقل وأدب صنع الله إبراهيم وعبد الحكيم قاسم (وجميعهم ستينين)، نبراسا لنا جيل السبعينيات.
لهذا في السبعينين لم يظلم الروائي أمام الشعري، ولكن جري قصف الجيل بمجمله؛ على المستوى والمادي والثقافي والروائي والشعرى والفني وعلى المستوى السياسي والاجتماعي، تم قصفه لأنه تجرأ على مواجهة النظام في فترة السبعينيات. واعتقد جازما أن الرئيس السادات (علي عكس ما يرى أخرون)، كان يبحث باِستماتة عن حل سلمى لمشكلة احتلال إسرائيل للأراضي المصرية، وكان كلا من الغرب والإسرائيليين لا يلقون إليه بالا. لكن الضغط الشعبي لتحرير الوطن كان شديد جدا، وأنا أعتقد أن هذا ما أجبر السادات على خوض الحرب… وعلى سبيل المثال لو قارنت هذا بما حدث فى سوريا، نجد أن النظام السوري قد قام بإحلال الخطاب السياسي (الممانعة) محل الكفاح والنضال من أجل تحرير الجولان وهي لا تزال محتله حتى اليوم.. وهو خطاب مزور دفع السوريون أثمانا باهظة خال العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين.
فى مصر يستطيع المواطن أن يتحدث يتناقش يعترض… لكن الدمار الذي حل فى سوريا اليوم لو بذل من أجل تحرير “الجولان” لكان هناك شأن أخر، ولما تعرضت سوريا لما يحدث لها الآن… أنت تكذب طول الوقت، بالضرورة تفقد مشروعيتك. لهذا يحدث الدمار الذي نراه الآن.
أنا أري أن ما يؤكد عظمة هذا الشعب انه طيب… صامت … يستمع، لكن أوقات الجد لا يرحم. ومن ثم حوسب جيل السبعينات على ضغطه من أجل خوض حرب التحرير، واعتراضه على أداء السلطة إبان السبعينيات. وفي المقابل (ودون السقوط في فخ التعميم) حصل العديد من جيل الستينات على التقدير والنفوذ وحصد الجاه والمناصب والجوائز.
ومن جهة أخري تمكنا نحن السبعينين من اختراق حاجز الحصار، وأعمالنا سوف تبقي شاهد علينا وعلى صلابة هذا الجيل.
عاشرا: الأدب والهندسة
السؤال الأول: متي بدأت علاقة فتحي إمبابي وهو خريج الهندسة بالأدب وكتابة الرواية؟
عندما كنت في الرابعة عشر ذهبت لـفرع دار الكتب الموجود في شبرا في (خلوصي بحي روض الفرج) هناك اطلعت علي الأدب العالمي العظيم والرائع؛ هيمنجواي، وتولستوي، شتاينبك، فوكنر، جويس وجوركي، زولا، وغيرهم من العظماء، لحظتها قررت أن أكون روائي.. فن الرواية ينقلك ويسافر بك إلى أنحاء العالم، لتري شعوب وثقافات وتنظر وتنخرط وتتورط في جمال العالم الإنساني وأزمته.. بعدها التحقت بكلية الهندسة
السؤال الثاني: كيف تأثر عالمك الروائي بدراستك وعملك في المجال الهندسي؟
أولا: دراسة الهندسة قدمت لي أشياء هامة جدا في عالمي الروائي
الأول فكرة المعمار… الهيكل الهندسي… التأسيس
الثاني: البحث، حيث يصعب أبداع روايات كبيرة دون أن يكون لديك القدرة على جمع المعلومات وأرشفتها
الثالث: جداول الإدارة والمتعلقة بكل من تطور الأحداث والشخصيات في علاقة مع زمن السرد. هذا عمل أساسي للسيطرة على مسار القص، والتحكم في حركة الشخصيات وتاريخها وأحداثها، فالعالم الواسع للرواية يحتاج بناء …
الرواية عمل شاق يكاد يكون عمل هندسي فني يتسم بالجمال والقبح الإنسانين
الأمر الثاني: العمل في مهنة الهندسة مكنني من رؤية المجتمع بشكليه الأفقي والرأسي، فانا أتعامل مع عمال وفنيين وملاحظين، وكذلك مهندسين ورجال أعمال وهذا يمثل البعد الأفقي
أما البعد الرأسي فيتمثل في سلوك الشخصيات في ظل حركة المال الهائلة وسطوته
السؤال الثامن: المؤسسة الثقافية
ومادام أتينا للتقدير والجوائز يطرح سؤال علاقة المثقف بالسلطة أين فتحي امبابي من هذه السلطة؟
تحضرني علاقة الرئيس الفرنسي ديجول بوزير الثقافة فى حكومته الروائي والمفكر أندريه مارلو ، الفكرة أن حماية الدولة لنفسها، وقدرتها على التطور والتقدم، تنحصر في (جزء هام) في مقدرتها على الفصل بين الثقافة والسياسة، لان الثقافة هي ضمير الأمة، والقدرة على المحافظة علي الضمير تعني حرية التعبير عن كافة الاتجاهات الثقافية والأدبية والفنية والاجتماعية، ما يضمن قدرة المجتمع على الحفاظ على سلامة جسده من الضعف والشيخوخة، ومن ثم وقدرته على التطور.
وهنا نحن نتكلم عن علاقة المثقف بالسلطة ـ عندما تحاول السلطة أن تطوع المثقف تبرز الأزمة، إذ أن قدرة المثقف على إفساد الضمائر أشد بكثير من رجل الأعمال أو الاقتصادي. وقد حدث أثناء حكم الرئيس الأسبق مبارك وبشكل عنيف جدا، أن لعب المثقفون وبعضهم ينتمون من الناحية الشكلية إلي اليسار الوطني والقومي دروا عميقا في إفساد ضمير الأمة.
هل السلطة الأن تبحث عن حماية ذاتها ونحن نلمس بدايات من هذا مع شراء صحف ومحطات فضائية من قبل السلطة؟
التدخل الشديد في منافذ التعبير ومنها الصحف والإعلام ليس فى مصلحة أحد، طبيعة الأنسان تتراوح بين الخطأ والصواب، والتجربة هي ما تمكنه من التفريق بينهما، والجماعات السياسية يمكن أن تخطئ، ويبقي الحل فى الديمقراطية والحريات، يختار المواطن ممثله بحرية كي يمثله، وليس ليكون تابع له، أن تكون يساري أو علماني أو رأسمالي لا يهم المهم طالما كانت المرجعية مصالح الوطن العليا وحرية وكرامة المواطن. فى هذه الحالة نجد أنفسنا أمام مجتمع قوي جدا.
كيف تري الحركة الثقافية في مصر والعالم العربي حاليا؟
الحركة الثقافية تراجعت كثيرا مثلها مثل الحياة الاجتماعية والسياسية العربية، تتهاوي في خضم الحروب الأهلية وانتشار التطرف، وضياع القدس، والتهادن والتراجع المخزي أمام الدولة الاستيطانية، الحركة الثقافية خربة، هرمة، وضعها الحالي نتيجة لمقدمات أسستها النخبة التي أدارت الحياة الثقافية منذ الثمانينات والتي فتحت الأبواب على مصراعيها للإسلام السياسي، ثم اضطرت تحت عنفه الذي وجهه لها أن تفتح الأبواب في مطلع التسعينيات للنخب المُزوَرة للعقل، فقدم التوريث والعبودية على أنها تنوير، والجمهوريات الوراثية على انها الديمقراطية، ولا يبدو أنها سوف تتعافي قريبا.
ــ أداء وزارة الثقافة المصرية؟ هل تلعب دورا فاعلا أم لا؟
المجتمع المصري في حاجة إلى وزارة ثقافة ثورية، لا يقودها موظفون ينفذون سياسيات من خارج الوزارة، وزارة الثقافة في حاجة لرموز وطنية مستقلة، وأصحاب مشروع يستند إلى الإيمان بالحرية الفكرية والوطن معا، قادر على نشر الثقافة العميقة والرفيعة في المدن الصغيرة والقري النائية، رموز وطنية قادرة على الفصل بين مفهوم وميكانزمات صناعة ثقافة أمه تتوق للتقدم، ومواجهة الصراعات، وفتح الطريق لعقل جمعي حديث فعال.
ــ أداء اتحاد الكتاب العرب نحو القضايا الراهنة؟
القضايا الراهنة أصبحت أقوي من عمل منظمة مثل اتحاد الكتاب العرب، ولن ألومه عندما يكون عاجزا عن التصرف، بينما الوضع السائد يدور حول صراعات عالمية وحروب تجمع بين صراعات إثنية وعرقية وطائفية وإمبريالية استعمارية، لقد تحول الوطن العربي إلى مسرح لصراع هويات مدمر لا تحلم إسرائيل بمثله، الأمر يتجاوز حتى جامعة الدول العربية.
دور المثقف في المعركة مع الإرهاب؟
إنه في المقدمة، هكذا تعلمنا منذ نعومة أظافرنا أن المثقف والثوري هما كائنان متلاحمان في الكاتب أو الروائي، لكن هل تتيح السلطة للمثقف أن يلعب هذا الدور المقاوم للإرهاب، أم أنها تعلم إنه سوف يطالب بحريته وحرية شعبه أيضا في التعبير. وتلك إشكالية؟
السؤال التاسع: الجوائز
كيف تقيم الجوائز مصرياً وعربياً، وهل هي معيار صادق للعمل الجيد؟ خاصة في ظل الفضيحة التي تفجرت في جائزة نوبل؟
الجوائز حق من حقوق الكتاب والمبدعين، وهي حق للقراء والمشاهدين، فتلك الروايات والأفلام التي نالت جوائز عبر نظم تحكيم فنية وإنسانية شفافة سوف تظل دائما في صدارة اهتمامات القراء والمشاهدين، باعتبار أن حصول العمل الأدبي والفني لجائزة محترمة على المستويين الوطني والإنساني هو علامة على تميز العمل، واحتواءه على مضامين فنية وإنسانية عالية، وفارقة وفريدة.
هذا حق القارئ والمشاهد أن يجد أدوات تدله على الاطلاع على أعمال فريدة تجعل منه أكثر إنسانية في عالم وحشي، أكثر حرية في عالم من الاستبداد، أكثر إيمانا بالقضايا العادلة للمظلومين والمقهورين في عالم يصادر حرية الشعوب والأفراد، ويخفي نزعة فاشية وعنصرية هائلة، أن يكون أكثر قدرة وحساسية على فهم العالم بما تقدمه تلك النصوص والأفلام من علامات تخيلية فارقة.
وللأسف الشديد ومن المحزن أنني وفي هذا الصدد اعتقد أن الغالبية العظمي من الجوائز التي شكلت في نهاية القرن الأخير قد انشأت تلبية لأغراض سياسية وليست إبداعية، تهدف إلى حماية عقل القاري من النصوص الروائية الانساية الرائعة على المستويين الفني والإنساني، والتي تحمل على عاتقها التنوير والبحث في المظالم، وخمل راية الحرية والعدالة، والتمسك بالهوية الذاتية للأفراد تجاه السلطة بأنواعها، واالهوية لوطنية والقومية تجاه الهجوم الضاري الإمبريال والصهيوني، أنها تكرس للرداءة.
وهذه المشكلة ناجمة عن تدخل النظام السياسي النفطي والأمني في الثقافي، وسيطرة أنصاف الموهوبين والشلل وأصحاب الأجندات النقدية المهترئة على لجان التحكيم. وهو أمر شديد الخطورة لأنه يهدر الطاقات الإبداعية والتخيلية لأمة كاملة.
ـــ هل تؤثر قوائم «البيست سيلرز» في تعاطي الكاتب مع الساحة الثقافية؟ أي في مواصلة الكتابة والنشر؟
بالطبع جميعها عوامل مؤثرة في ميل القارئ، وأحيانا يجنح بعض الكتاب لاستنساخ تلك الأعمال، ولكن من المهم القول بإن تلك القوائم لا تميز بين السمين والغث، وبين الفن الرفيع والرديء بصورة عامة، ولهذا أعتقد أيضا أن القارئ الذكي لا يستند في خيارته على تلك القوائم فحسب، كما أن الأعمال الكبيرة والهامة لا تحتاج لتلك القوائم للتنافس على روح القارئ والفوز بذائقته الفنية.
هل انت راض عن منظومة الجوائز الادبية وتقيمك لها؟
حصلت علي جائزة الدولة التشجيعية عام 1995 وينتابني الضيق عندما يقدمني الأصدقاء والمنتديات باعتباري حاصل علي جائزة الدولة التشجيعية. فى وقتها كانت شيء عظيم، بعد ذلك ثمة سور كبير بيني وبين الجوائز، مثلا من كبار النقاد الأستاذ رجا ء النقاش طلب مني أن أتقدم لنيل جائزة الجامعة الأمريكية. وكان هذا عام 2003 وهو سنة التدخل الأمريكي في العراق كيف أتقدم لنيل جائزة من الجامعة الأمريكية، والولايات المتحدة تغزو وطني في العراق، قلت له أستاذ رجاء الرواية التي كتبتها واسمها «اقنعه الصحراء» تتناول الغزو الأمريكى الأول للعراق فكيف أتقدم للجائزة. ولم أتقدم.
هو قرار المثقف إذن وأنا اعتقد أن تسليم النخبة والسلطة الثقافية المصرية نجيب محفوظ للجامعة الأمريكية والتي هي (علي عيننا ورأسنا) .. غير ملائم، فنجيب محفوظ قيمة تمثل روح مصر، وروح الأمة العربية، يجب أن تصدر جائزته من المؤسسة الثقافية المصرية ..
جائزة الجامعة الأمريكية باسم نجيب محفوظ جزء من السياق المزور.
ولماذا لا تعلن الجامعة الأمريكية عن جائزة باسم الروائيون الأمريكيون العظام أمثال “همنجواي” تشاينبك” أو “فوكنر“. هل تعلم لماذا؟ لأن السياسية الأمريكية في المنطقة العربية تعادي ما حملته أعمال هؤلاء الروائيين العظام من عوالم انسانية،
مؤخرا جهة محترمة جدا ولها كل التقدير طلبت أن ترشحني لجائزة التفوق، اعتذرت باحترام وتقدير، إذ كيف يمكن أن أضع أعمالي (نهر السماء، مراعي القتل، شرف الله، عتبات الجنة، العلم، إلخ) في تلك المرتبة المتدنية من التقدير. يجب أن يكون لدي المثقف نوع من الكبرياء
الجوائز شيء مهم جدا وينشط حركة الأبداع لكن كما يبقي الفصل بين ما هو متعلق بموقف الكاتب السياسى وقيمته الإبداعية.
السؤال العاشر
ما الأثار التي ترتبت علي وضع الدستور الروماني في مصر القديمة؟
– ضم الدستور الذي وضعه الرومان لمصر تحت عنوان (وثيقة “الجنومون“) عشرات البنود في مختلف مناحي الحياة اليومية والاقتصادية والتشريعية والدينية تمخض عنها مجموعة من القواعد والأسس يمكن تلخيصها في الآتي:
– ضمان عدم ملكية الفلاحين المصريين للأراضي الزراعية والعقارية، ما كبح إمكانية تطور القوي الاجتماعية للمجتمع المصري. كما منع انخراط أبناء الفلاحين المصرين في جيش الإمبراطورية أو حمل السلاح. أي انتج هذا الدستور شعب بلا قوى مادية/اجتماعية/ أو عسكرية، وهو ما يعني الاستلاب المادي.
– سيطرت الإمبراطورية الرومانية على المؤسسة الكهنوتية المصرية سيطرة مطلقة، وأدخل الأباطرة الرومان الغزاة المحتلين في منظومة الآلهة المصرية القديمة. وهو ما أنتج الاستلاب الروحي.
– بعد آلاف الأعوام من استقرار الجماعة المصرية داخل منظومة يقينية من الأخلاق والدين والحياة الإنسانية بين العالمين الحاضر والأخروي، نزع الرومان عنهم حق الحياة الحرة الكريمة داخل نطاق الشرائع، وأصبحوا يعاملون مثل الحيوانات والمنقولات، وضعوا في المرتبة الرابعة في قانون التمييز العرقي الروماني، يحيون مثل الآنعام والبربر والهمج بلا شريعة، وكان كل من يرتبط بمصري أو مصرية فأبنائهم أولاد زنا أو سفاح،
وبهذا يمكن القول بأن الجماعة المصرية تحت الحكم الروماني قد جري خروجها من مجري التاريخي، وإدخالها إلى نطاق العبودية، على مستوي الأفراد والأمة.
هل هناك ملامح لهذه الآثار حتي يومنا هذا؟
– تتمحور قوانين التطور الإنساني على قضيتي الحرية والعدالة، وقد استمر تابوت الموت المتمثل في الدستور الذي وضعه الرومان لمصر يسجن روح الجماعة المصرية وجسدها عشرات القرون، تطالب بالعدالة لكنها لا تستوعب بصورة قاطعة معني الحرية الفردية، التي هي جوهر الوجود الإنساني، ولم يساهم في إخراج المصريون من شرنقة الاستلاب هذه سوي عدد من الأحداث التاريخية؛ بدأت في نهاية القرن السابع عشر ميلادى، أولها كان الحملة الفرنسية عام 1798، التي أحضرت معها رياح التطور، وصعود محمد على الذي كشف القوة الهائلة الكامنة في الدولة المصرية. ثالثها اكتشاف حجر رشيد الذي أعاد للمصرين الوعي بالذات الجمعية وبعمق وعظمة حضارتهم المصرية القديمة. والأمر الرابع والحاسم تمثل في اللائحة السعيدية التي أصدرها الوالي محمد سعيد باشا عام 1858 والتي انتقلت بعلاقة الفلاحين المصريين بالأض الزراعية من حق الانتفاع إلى حق الحيازة والتي تمثل الأساس لملكية الأراضي الزراعية، وهو ما يعني حق ملكية الأراضي، وأعطت أبناء عمد ومشايخ القري الحق في الترقي في الجيش المصري لرتب الضباط.
أي أن استعادة الوعي بالذات لدي الجماعة المصرية لم يتجاوز مائة وستون عام، ولهذا لا تزال الشخصية المصرية مثقلة بروح العبودية وسلوك القطيع. وفي المقابل تعد ثورة 25 يناير 2011 أول ثورة في التاريخ المصري تكشف عن توق الانسان المصري لمفهوم الحرية والكرامة الإنسانية، إنه الميلاد الأول من تاريخ العبودية، هذا الميلاد العسير لن يتوقف عند حدود ثورة 25 يناير، وانما سيططور ويأخذ أشكال متعددة في سبيل الحرية الانسانية.
أشرت في كتابك” شرائع البحر الأبيض المتوسط” إلى ظهور نمط من أنماط العبودية، لا يتوقف عند حدود إنتاج الرق وعبودية الأفراد، وإنما يتجاوزه إلى نمط أخر وهو “عبودية الأمم“. فماذا قصدت من هذا المصطلح وما معناه؟
من المعلوم أن نشوء المجتمعات استند على “دور العمل فى استجلاب الملكية”. لكن الدستور الذي وضعه الرومان لمصر صادر وسائل الإنتاج وجعل ملكية الأرض الزراعية والعقارية حكرا لشخص غامض، قد يكون إمبراطور يعبد فى المعابد، أو قيصر أو سلطان أو خليفة يدعي له في الكنائس والجوامع، بينما لم يتجاوز مردود “عمل” الفلاحون المصريون حد البقاء على قيد الحياة، بوصفهم أداة للإنتاج.
وكانت النتيجة أن هذا القانون أجهض أى إمكانية لتكوين قوى اجتماعية حقيقية من الجماعة المصرية، يكون لها وجود اقتصادي ومادي مستقل، وبدون توفر تلك القوى الاجتماعية. ما كان يمكن للجماعة المصرية أن تتطور اقتصاديا واجتماعيًّا، وقد أبقت البنية الاجتماعية المصرية طوال عشرات القرون أسيرة نظام اقتصادي يقوم على الجباية.
عبيد أمم
فى قاع تلك البنية، قبع الفلاحون المصريون في نوع من الرق ذو طبيعة ونتائج تتباين مع الرق الفردي السائد فى تلك العصور، حيث شكلوا عبيد أرض، أو نوعا من عبودية مختلفة، يمكن أن نطلق عليها أمة من العبيد، أو (عبيد أمم) وقد استقر الواقع على ما هو عليه لمئات السنين دون تبديل ولا تغيير.
وهكذا بينما كانت أدوات وعلاقات الإنتاج والقوي الاجتماعية تتطور وتتغير في العالم، وتترك المجتمع العبودي كى تنتقل للمجتمع الإقطاعي ومن ثم الرأسمالي، فقد ظلت الجماعة المصرية (ممثلة في فلاحيها) ترزح تحت الثقل المقيت لتلك الظروف الاجتماعية التاريخية التي عاصرت ميلاد السيد المسيح. على ما هم عليه، “عبيد أمم”، لا طاقة لهم ولا إمكانية للتأثير في متغيرات التاريخ.
فبعد انقطاع العلاقة بين العمل والملكية، لم تتمكن الجماعة المصرية من أن تُنشئ قوى اجتماعية تتطور في داخل المسرح الجيوسياسي لمصر، وينتج عنه وعى جمعي وثقافة كلية، يشكلان هوية فاعلة في التاريخ العام والخاص، تخص المكان والجماعة التي تقيم على مسرحه.
ذلك أن الفارق بين الرق الفردى والعبودية الجماعية (عبودية الأمم)، أن الطابع الأول يتلاشى بتلاشى أفراده، وتتلاشى هوياتهم السابقة، في قيود العبودية المقيتة والتي تنتهي بالموت أو العتق، وهو ما لا يؤثر ولا ينتج ثقافة سوى ثقافة الطبقة المسيطرة، التي توسس ثقافة الدولة، ويتبني المجتمع ثقافتها.
بينما فى الحالة الثانية تتحول عبودية الجماعة إلى وعى وثقافة اجتماعية، تترسخ عقوداً بعد عقود، وتتحول من مجرد لحظة ألم واغتراب شخصي خاص إلى حالة استلاب كلية وعامة ومستمرة، مثلها مثل الديمومة التي صنعت الماعت المصرية، وها هم المصريون يعانون من ديمومة أخرى هى ديمومة ثقافة العبودية الجمعية العامة، والتي نجم عنها حالة الاستلاب المادى والروحي والمعنوي.
تتبعت شرائع منطقة الحضارات النهرية القديمة لحوض البحر المتوسط٬ فهل حدث تلاقح بين هذه الشرائع؟ حدثنا عن مظاهر هذا التلاقح.
أصبح من المستقر يقينا لدي النخبة من المثقفين والعاملين في مجالات الثقافات والحضارات والأديان في الشرق الأدنى سواء في العالم أو في مصر، أن هناك تماثل شديد في كثير من المقاربات والتماثلات والرموز الدينية بين الديانة المصرية القديمة، واليهودية والمسيحية، لكن هذا الكتاب يعتبر المحاولة الأولي للبحث في نطاق أطار أوسع يقوم على دراسة ومقارنة أوجه التفاعل بين ثقافات وحضارات شعوب البحر المتوسط شماله وجنوبه وشرقه بما يشمل الحضارات اليونانية والرومانية، وبالقطع حدث تلاقح وتلاحم وتفاعل وتتطابق وتناقض، فالصليب رمز المسيحية، هو أيضا رمز العبودية في العصر الروماني أكبر منتج للعبيد، وقد أجبرت المسيحية روما الوثنية على تبني العقيدة المسيحية، وتمكنت من الإطاحة بقانون الفتح الروماني، وأحلت محله قانون الإيمان الأرثوزكسي (المستقيم/ الماعت) الذي سنته الكنيسية المصرية القبطية.
هل صبت في مصلحة شعوب البحر المتوسط؟
ليس من شأن التاريخ أن يلعب في مصلحة الجميع، وغير مهتم بالعدالة، بل هناك دوما منتصر وهناك مهزوم، ولكن من الممكن الجزم بأن أكثر الخاسرين في ذاك الشأن كانت الجماعة المصرية، فرغم الدور الذي لعبته في الدعم والمساندة في تبني المثل والقيم الروحية الممثلة في الديانة المسيحية والكنيسة القبطية أنداك، إلا أن الخسائر المادية والاجتماعية للفلاحين المصريين كانت جسيمة، إذ تقاسمت الكنسية والسلطة الزمنيه، الروح للكنيسة، والجسد والعمل المادي وعائده ومنتجه للدولة.
ما الدور الذي قامت به الكنيسة القبطية في قيادتها للشعب المصري لإذلال روما وإسقاطها؟
كانت الإمبراطورية الرومانية تمثل قمة القوي المادية أنذاك، وقد جعلت من المواطن الروماني على قمة العالم، وكان التمييز الأثني والسلالي جوهر منظومة الحكم والملكية والأخلاق، وكانت روما قد أحكمت سيطرتها على كافة شعوب البحر المتوسط، وكان جوهر الحكم الروماني السيطرة التميزية المطلقة للمواطن الروماني من جهة، ومن جهة أخري إنتاج العبيد من تلك الشعوب بلا رحمة ولا شفقة.
في مطلع القرن الأول الميلادي جاءت رسالة السيد المسيح تبشر بعالم أخر، يقع في السماء، لا تطاله على المستوي المادي والقوة العسكرية الفيالق الرومانية الظافرة على الأرض، أما على مستوي القيم فقد هجرت المسيحية كافة القيم المادية، وعظمت من القيم الروحية، لتدعو روما إلى النزال والصراع في مسرح عمليات لم تعرفه أو تشهده روما من قبل، إنه مسرح الأخلاق والتقشف والرهبنة والاستعلاء على كافة النوازع المادية والدنيوية، صراع ليس له ميدان حربي على الأرض التي برعت روما في كسب معاركها، ولكنه صراع في السماء، لا تملك روما حتي أن تقف بسرية عسكرية واحدة من فيالقها وخيولها عليه.
وفي هذا الإطار وجد الشعب المصري في الديانة المسيحية ما يستر روحه التي سحقها قانون الفتح الروماني، وثبته الدستور الذي كتبه الرومان لمصر، وكان لجحافل وفيالق الشهداء التي قدمها المصرين عقدا بعد عقد، وجيل بعد جيل وطوال القرنين الثاني والثالث الميلاديين، اللذان اتخذ خلالهما اباطرة الرومان، من المسيحيين المصرين هدفا للتنكيل والقتل ومسرحا للمذابح الجماعية التي تفنن فيها أباطرة الرومان، حتى كلت يد البغي وسيف الجلاد وسياط الكراهية والحقد ووهن أمام صمود المصريين.
في هذا الواقع شكلت الكنيسة المصرية القبطية مركز وعمود المقاومة الصلب الذي لا يلين، مستندة إلى ثلاث أقانيم اسطورية، لم تكن الآب والأبن والروح القدس، بل كانت الحضارة المصرية العريقة، والفلسفة اليونانية التي أصبحت الإسكندرية مستقر لها، والمعين الفكري والتشريعي الواسع الذي حواه العهد القديم(التوراة). وكان لجيوش روما أن تنهزم في تلك المعركة التي كانت تقودها الكنيسة المصرية القبطية.
فى عام 311 م أصدر الإمبراطور قسطنطين مرسوم ميلان وهو مرسوم التسامح والذي قال فيه: … يمنح المسيحيون وسائر الناس الحرية فيما ترضاه نفوسهم من الديانة، وأن لا يحرم أى إنسان من حرية الاختيار فى اتباع عقيدة المسيحيين، أو فى اعتناق الديانة التى يراها متناغمة وهواه“
قانون الإيمان المستقيم
هزمت روما روحيا، ولكن الكنيسة القبطية لم تكتفي، فعندما حاول بعض أساقفة الكنيسة الشرقية مداهنة أباطرة روما (المسيحية) بنقض لاهوت السيد المسيح، رفضت الكنيسة القبطية الأمر، وعزمت على الدفاع عن لاهوت السيد المسيح، فمن غير المدرك لدي الكثيرين أن روما كانت ترفع أبطالها وعظمائها إلى السماء حيث يصبحون آلهة، ومن ثم سيبدو السيد المسيح مثله مثل أباطرة روما مجرد ناسوت ارتفع إلى مصاف الآلهة.
فى(20 مايو 325م) عقد مجمع نيقية. حضره ( 318أسقفا) أغلبهم يمثل الكنائس الشرقية، وحضره الكسندروس أسقف الإسكندرية وشماسه أثناسيوس، وستة أساقفة فقط من الغرب، ودارت المناقشات لتحديد العقيدة التى تمثل الإيمان القويم، أو المستقيم، والذي ترضى به الكنائس كلها، وبفعل منطق الأمور، وخاصة فى أمر يخص عقيدة دينية، انتصرت عقيدة الإيمان المصري والتي تمتلك عراقة أرث يستند على مفهوم الماعت أي (الاستقامة) وحول الخير والعدل، وقد حاز أثناسيوس الشماس الشاب إعجاب الحضور بثقافته وبراعته الخطابية وفهمه العميق للكتاب المقدس. وفى النهاية أوكل إلى ثلاثة من الحضور هم؛ (الأنبا الكسندروس بابا الإسكندرية التاسع عشر) وشماسه (أثناسيوس الرسولى) الذي خلفه على كرسى البابوية، وليونتيوس أسقف قيسارية الكابودوك بكتابة دستور الكنيسة الجامعة، وجاء النص كالتالى:
“قانون الإيمان القويم”: “نؤمن بإله واحد، الله الآب ضابط الكل خالق السماء والأرض ما يرى وما لا يرى، نؤمن برب واحد يسوع المسيح. المولود من الآب قبل كل الدهور. نور من نور. إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق. مساو للأب فى الجوهر…“